ان العقل البشري لا يكون بمعزل عن الواقع ، هذا الاخير الذي يشمل الظواهر و الكائنات لهذا يلجأ العقل الى مبادئ و احكام لدراستها وفق المنطق المادي التجريبي الذي يهتم بدراسة مادة الفكر و مدى مطابقتها للواقع الخارجي و عليه فالسؤال الذي يطرح نفسه كالتالي : هل انطباق الفكر مع الواقع لا يقوم الا على أساس تجريبي خالص؟
1/ كيف ينطبق الفكر مع الواقع ؟
أولا : التعرف على طبيعة المنهج التجريبي من الناحية النسقية:
-مفهوم الاستقراء : و يعرفه فرانسيس بيكون (انجليزي) "استخلاص القواعد العامة من الاحكام الجزئية".
استقراء تام : (الحكم على الكل باحصاء جميع جزئياته)
مثال :
دعاء و ابتسام و ايمان ناجحات
دعاء و ابتسام و ايمان هن بنات المهندس جمال
كل بنات المهندس جمال ناجحات
استقراء ناقص : (الحكم على الكل باحصاء بعض جزئياته)
مثال :
الحديد معدن يتمدد بالحرارة
الذهب معدن يتمدد بالحرارة
الفضة معدن يتمدد بالحرارة
كل المعادن تتمدد بالحرارة
*التعرف على الاستقراء من الناحية الاجراءية:
1. الملاحظة : هي مشاهدة ظاهرة كما هي عليه دون زيادة او نقصان.
2. الفرضية : تفسير عقلي مؤقت للظاهرة لانها قد تحتمل الصدق او الكذب.
3.التجربة : اخضاع ما تم ملاحظته ضمن شروط اصطناعية مخبرية قصد المعاينة و ذلك للتأكد من صحة الفرضية.
لقد طالب بعض الباحثين باستدلال الفرضية بقواعد أخرى و هي التي قام بوضعها الفيلسوف جون ستيوارت ميل و هي :
-قاعدة التلازم في الحضور : اي اذا حضرت العلة حضر المعول . مثل : الحرارة المرتفعة هي سبب تبخر الماء.
-قاعدة التلازم في الغياب : اي كلما غابت العلة غاب المعلول . مثل : غياب الهواء يؤدي الى غياب الحياة .
-قاعدة التغير: كل تغير يمس العلة يؤدي الى تغير في المعلول.
-قاعدة البواقي : و هو الناتج المتبقي عن تلازم العلة و المعلول.
2/و كيف يصل الباحث الى هذا الانطباق اذا كان يأخذ بأحكام مسبقة غير مأكدة علميا؟
- مفهوم الاحكام المسبقة : و هي جملة من الآراء و التصورات التي يكونها الباحث او الانسان العادي حول الظاهرة دون سند تجريبي فهل هذه الاحكام ضرورية يا ترى؟
الموقف 1 : ضرورة الاخذ بالاحكام المسبقة.
الحجج : لأن هذه الاحكام تسبق التجربة و تتمثل في:
*مبدأ السببية : و هو مبدأ عقلي مفاده أن لكل ظاهرة سبب يفسر حدوثها . مثال : حدوث الليل و النهار سببه دوران الارض حول نفسها.
*مبدأ الحتمية : و مفاده نفس الاسباب تؤدي حتما الى نفس النتائج.
*مبدأ اطراد الظواهر : و يعني التتابع المتكرر للظواهر. مثال : اذا غربت الشمس حل الليل و اذا اشرقت حل النهار.
الموقف 2 المعارض : الفكر العلمي في غنى عن الاحكام المسبقة أي ضرورة رفض هذه الاحكام.
الحجج : لان هذه الاحكام المسبقة غير مثبتة بالتجربة و الباحث يصور احكام و يسلم بها عن هوى لا عن يقين و بالتالي الابتعاد عن الموضوعية العلمية لهذا وجب اقامة قطيعة مع هذه الاحكام على حد تعبير غاستون باشلار "ليس لدينا معارف اولى انما لدينا اخطاء اولى". و فرانسيس بيكون الذي يدعو الى تطهير العقل من الاوهام.
3/كيف يستطيع العالم بهذا الاسلوب المنطقي الوصول الى الحقيقة؟
يمكن للعقل ان يصل الى الحقيقة من خلال القواعد الاربعة التالية:
-القانون : و هو عبارة عن صيغة رياضية رمزية تفسر العلاقات بين الظواهر.
-التعميم : حيث ينطلق الباحث اثناء تجاربه من عينات جزئية و النتيجة التي يتوصل اليها يعممها على باقي العينات الاخرى.
-التنبؤ : و هو ناتج عن الايمان بمبدأ تتابع الظواهر حيث يمكن للعالم أن يتنبا بحدوث الظاهرة قبل ان تقع و ذلك ما نجده في الارصاد الجوية.
4/و هل انطباق الفكر مع الواقع يمنع من انطباقه مع نفسه؟
النسق الرياضي يترجم انطباقه مع نفسه و مع الواقع :
ان الرياضيات شبيهة بالمنطق الصوري لانها تعتمد على الصدق الصوري و بالتالي فمنهج الرياضيات هو فرضي استنتاجي يهتم بتطابق الفكر مع نفسه و في نفس الوقت مع الواقع حيث نجد ان العلوم الحديثة و في مقدمتها الفيزياء تنطلق من الواقع اثناء دراستها للظواهر كالكهرباء، الحركة ، الفيزياء.
و لكن في بناء هذه القوانين نعتمد بالضرورة على المنهج الرياضي حيث تقوم بصياغة رياضية عقلية لمختلف استنتاجاتها . و كذلك نجد مبدأ الهوية.
مما سبق يمكننا القول ان التفكير المنطقي صورته العامة سواء كان استقرائي او صوري انما يهدف في اساسه الى بلوغ المعرفة و الابتعاد عن الشك كما ان الغرض من المنطلقات التي يعتمدها المنهج التجريبي فبالرغم من كونها تعتمد على مجموعة من الافتراضات العقلية الا انها تعطينا نتائج صحيحة.