أم عبد النور
2012-11-28, 19:59
محاظرة رقم 4
سنة 3 علوم إسلامية
مسار دعوة و إعلام
جامعة الوادي
الحوار بطبيعته عملية فكرية، الموجه فيها هو العقل، وهو بهذه الصفة ليس عملاً مقدوراً لأي إنسان، وفي أي مرحلة وفي أي وقت، ولكنه مهارة عقلية وعادة فكرية تحتاج إلى المران والتدريب والتعليم والتعلم، والمحسن له لا على المستوى النظري فحسب، بل يكون نهجه وعادته، ننظر إليه على أنّه قد حصل اكتسب أغلى ما تسعى العملية التربوية أن تكسبه لكل إنسان، وإلا فهل هناك في الإنسان ما هو أغلى وأثمن من عقله الذي ميز به بين سائر المخلوقات، وبه يصح التكليف، وبه تلقى كتب المولى – عزّوجلّ – التي أنزلها على رسله الكرام، وفهمها ووعاها، وبه عرف الحق نفسه تبارك وتعالى ووعى أن هناك حساباً وجزاءً في عالم آخر؟
التنمية الفكرية:
ومن هنا فقد كانت تربية الإسلام للإنسان تركز تركيزاً ملحوظاً على تنمية عقله، وتدريبه على رشد التفكير، ومن هنا نجد الإشادة كثيراً في القرآن الكريم بالحكمة وأنّ الذي يؤتاها فإنما يؤتى خيراً كثيراً، والحكمة هي ذروة التعقل، ورشد الحكم، وصواب السلوك، واستقامة الطريق (.. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...) (البقرة/ 269).
إنّ هذا يتسق تمام الاتساق مع فطرة الإنسان التي فطره المولى – عزّوجلّ – عليها، ذلك أنّ هذا الإنسان ليس آلة صماء تتحرك دون أن تحركه الغرائز العمياء، والهوجاء، بل إنّه إنسان مفكر عاقل، وانطلاقاً من ذلك نجد أنّ التربية الفكرية للإنسان ليست حشواً للذهن بالمعلومات، ولا تلقياً ببغائيّاً لخبرات غيره، ولكنها صقل للحواس وتدريب لها، وفضلاً عن ذلك، فهي تستهدف تشجيعها للقدرات العقلية بأن تعمل بنجاح وثقة ملاحظة وتجريباً، بمعنى أنّ التربية الناجحة هي التي تعمل على إيقاد المصباح الذاتي فينا، أو لإثارة الدوافع النفسية للاطلاع وحل المشكلات والتفكير السليم.
وقد دعا القرآن إلى التفكر بأساليب شتى، وفي كل المجالات، فيما عدا التفكر في الله تعالى؛ إذ التفكر في ذاته سبحانه تبديد لطاقة العقل، فيما لا يمكنه إدراكه فحسب أن يفكر في مخلوقاته في السماوات والأرض وفي نفسه، يقول سبحانه: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى...) (الروم/ 8).
وكذلك ينبغي للعقل أن يتفكر في آيات الله تعالى في أرضه وسمائه، وفي شمسه وبحره، ونجومه، وفيما تشتمل عليه الأرض من حيوان ونبات، وجبال وأنهار وبحار، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد/ 3).
ولا يقف التفكر عند الجوانب المادية، بل يتجاوزها على الجوانب المعنوية، كما في العلاقة بين المرء وزوجه، التي اعتبرها القرآن آية من آيات الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).
ومن أبرز أساليب القرآن الكريم في تنمية مهارات الحوار وتنمية التفكير "السؤال"، ففي القرآن الكريم حشد من الأسئلة بكل ألوانها وأنواعها وأغراضها، تارة أسئلة مطروحة على لسان الناس، وأخرى مطروحة على لسان الرسول (ص)، وهكذا في سياقات من الحوار والشرح والبيان. ترى: كم مرة استعمل القرآن الكريم همزة الاستفهام؟ وكم مرة استعمل حرف (متى)؟ وكم مرة استعمل (أيان)؟ وكم مرة استعمل (من)؟
إنّ هذه الكثرة من الأسئلة والأجوبة في هذه الخارطة من الحجاج والسجال تكشف عن هوية حوارية تربوية قرآنية، وتكشف عن نزعة قرآنية متجهة نحو السؤال كمادة جوهرية في تربية الإنسان وتنشئته، وإلا كان بالإمكان التخلي عن طرح السؤال، لكن ذلك لم يكن ليكون؛ لأنّ الغاية المهمة هنا هي تنمية عقل وتنمية تفكير، ففي ذلك تنمية للإنسان كلية وتربية لكل موضوع يتعرض له بالتفكير.
لقد جاء استعمال مادة السؤال كثيراً، وقد كان مدخول السؤال هو الآخر ذا مساحة كبيرة جدّاً، حتى يمكن تشكيل خريطة هائلة من الأسئلة والأجوبة من كتاب الله تعالى، فقد جاء الاستعمال أكثر من مئة مرة، وأما استعمال الأدوات فكثير جدّاً.
كان السؤال عن الحقيقة، وكان هناك السؤال عن الخصائص والصفات، وكان السؤال عن الفائدة، وكان هناك السؤال عن الأحكام والمواقف، وكان هناك السؤال عن العقيدة وعن التاريخ، وعن المبدأ والمآل والمصير. وقد أرشد القرآن إلى عدد من الوسائل الأساسية في عملية التعلم والتعليم عن طريق الحوار، نذكر منها على سبيل المثال:
1- دعوة الناس بلسانهم (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف/ 2)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ...) (إبراهيم/ 4).
2- حسن الانتباه والإنصات (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا...) (الأعراف/ 204)، ويقول: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ...) (الأنعام/ 36).
3- التدبر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24)، ويقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
4- المجادلة بالتي هي أحسن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
5- حسن القول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (الإسراء/ 53).
6- استعمال المشاهدة بالحواس، وخصوصاً السمع والبصر، ولكن بشرط تربيتها وتدريبها من ناحية، وإعانتها على دقة الملاحظة بالآلات الدقيقة من ناحية أخرى، هذه الآلات هي في الواقع وسائل هدى الله إليها الإنسان، ليزيد في مدى حسه فيزيد في مدى إبصاره مثلاً بالمجاهر "الميكروسكوبات"، يقول سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).
ولقد درب الرسول الكريم أصحابه أن يستخدموا عقولهم في مواجهة المشكلات وأن يجتهدوا في ذلك – فلكل مجتهد نصيب – وألا يكونوا إمعة، وكان ذلك عن طريق حوار، ونسوق مثلاً لذلك:
لما ازداد عدد المؤمنين، وتوسعت أطراف المدينة المنورة بمن حل فيها من المهاجرين وغيرهم إلى جانب الأنصار، قامت مشكلة دينية اجتماعية، وهي: كيف يمكن دعوة المؤمنين للمسجد إذا حان وقت الصلاة؟ فلابدّ من عمل شيء.
اجتمع رسول الله وأصحابه يتذاكرون، وبدأت الاقتراحات لحل المشكلة تتوالى: قال بعض الصحابة: إذا حان وقت الصلاة فإننا نرفع راية في مكان مرتفع ليراها الناس، بيد أنّ هذا الاقتراح لم ينل قبولاً، لا من الرسول، ولا من الصحابة؛ لأنّه لا يحل المشكلة، ولا يحقق الغرض المطلوب، ورفع الراية لا يوقظ النائم ولا ينبه الغافل!
وقال آخرون: نشعل ناراً على مرتفع الهضاب، وهذا اقتراح لم يلق قبولاً لسبب جوهري اجتماعي؛ وهو أن ذلك شعار المجوس عبدة النار، وينبغي للأُمّة الموحدة أن يكون لها شعارها المميز والخاص.
وأشار قوم باستخدام بوق لدعوة الناس إلى الصلاة، كذلك لم ينل مثل هذا الاقتراح قبولاً؛ لأنّ اليهود كانت تستخدم البوق، ويجب الحفاظ على شخصية الأُمّة من الذوبان والضياع.
واقترحت جماعة أخرى دق الناقوس، ورفض الاقتراح؛ لأنّه تقليد للنصارى، والمفروض أن تكون للأُمّة الإسلامية ذاتيتها المتميزة.
ثمّ أخيراً أشار بعض الصحابة بالنداء، فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادون بها بشعار إسلامي خاص، فقبل هذا الرأي بشكل مبدئي؛ لأصالته الفكرية المؤمنة؛ ولتحقيقه العملي للغرض المطلوب في دعوة الناس.
- تربية تعتمد على بث الوعي:
ومن مظاهر سعي رسول الله كذلك لتنمية التفكير السليم أن دعوته استهدفت تربية وهداية تقوم على بث الوعي وندرة الاعتماد على المعجزات.
وليس أصدق من نبي يعلم الناس الصدق فيعلمهم مرة بعد مرة، أنّ الغيب من علم الله، يكشف عنه ما يشاء لمن يشاء: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ) (الأعراف/ 187)، و(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 188)، و(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام/ 50)، و(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (الأنعام/ 59)، إلى غير ذلك من آيات تؤكد المعنى نفسه.
وكان الناس ينظرون إلى حوادث الفلك فيحسبونها من الآيات فينهاهم أن يخلطوا بين حوادث الفلك وحوادث الحياة والموت، وعندما كسف الشمس عند موت ابنه إبراهيم، فقال الناس إنها كسفت لموته، فلم يمهلهم أن يسترسلوا في ظنهم وهو محزون الفؤاد على أحب أبنائه إليه، بل أنكر عليهم ذلك الظن، ورآها فرصة للتعليم ولم يرها فرصة للدعوة، فقال معقّباً: "إنما الشمس والقمر آياتان من آيات الله ولا تكسفان لموت أحد..."، وخلصت النبوة كلها لمهمتها الكبرى، وهي إعادة بناء الإنسان في تمام وعيه وإدراكه، فانقطع ما بينها وبين كل صناعة أو حيلة كان يستعان بها قديماً على التأثير في العقول عن طريق الحس المخدوع.
سنة 3 علوم إسلامية
مسار دعوة و إعلام
جامعة الوادي
الحوار بطبيعته عملية فكرية، الموجه فيها هو العقل، وهو بهذه الصفة ليس عملاً مقدوراً لأي إنسان، وفي أي مرحلة وفي أي وقت، ولكنه مهارة عقلية وعادة فكرية تحتاج إلى المران والتدريب والتعليم والتعلم، والمحسن له لا على المستوى النظري فحسب، بل يكون نهجه وعادته، ننظر إليه على أنّه قد حصل اكتسب أغلى ما تسعى العملية التربوية أن تكسبه لكل إنسان، وإلا فهل هناك في الإنسان ما هو أغلى وأثمن من عقله الذي ميز به بين سائر المخلوقات، وبه يصح التكليف، وبه تلقى كتب المولى – عزّوجلّ – التي أنزلها على رسله الكرام، وفهمها ووعاها، وبه عرف الحق نفسه تبارك وتعالى ووعى أن هناك حساباً وجزاءً في عالم آخر؟
التنمية الفكرية:
ومن هنا فقد كانت تربية الإسلام للإنسان تركز تركيزاً ملحوظاً على تنمية عقله، وتدريبه على رشد التفكير، ومن هنا نجد الإشادة كثيراً في القرآن الكريم بالحكمة وأنّ الذي يؤتاها فإنما يؤتى خيراً كثيراً، والحكمة هي ذروة التعقل، ورشد الحكم، وصواب السلوك، واستقامة الطريق (.. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...) (البقرة/ 269).
إنّ هذا يتسق تمام الاتساق مع فطرة الإنسان التي فطره المولى – عزّوجلّ – عليها، ذلك أنّ هذا الإنسان ليس آلة صماء تتحرك دون أن تحركه الغرائز العمياء، والهوجاء، بل إنّه إنسان مفكر عاقل، وانطلاقاً من ذلك نجد أنّ التربية الفكرية للإنسان ليست حشواً للذهن بالمعلومات، ولا تلقياً ببغائيّاً لخبرات غيره، ولكنها صقل للحواس وتدريب لها، وفضلاً عن ذلك، فهي تستهدف تشجيعها للقدرات العقلية بأن تعمل بنجاح وثقة ملاحظة وتجريباً، بمعنى أنّ التربية الناجحة هي التي تعمل على إيقاد المصباح الذاتي فينا، أو لإثارة الدوافع النفسية للاطلاع وحل المشكلات والتفكير السليم.
وقد دعا القرآن إلى التفكر بأساليب شتى، وفي كل المجالات، فيما عدا التفكر في الله تعالى؛ إذ التفكر في ذاته سبحانه تبديد لطاقة العقل، فيما لا يمكنه إدراكه فحسب أن يفكر في مخلوقاته في السماوات والأرض وفي نفسه، يقول سبحانه: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى...) (الروم/ 8).
وكذلك ينبغي للعقل أن يتفكر في آيات الله تعالى في أرضه وسمائه، وفي شمسه وبحره، ونجومه، وفيما تشتمل عليه الأرض من حيوان ونبات، وجبال وأنهار وبحار، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد/ 3).
ولا يقف التفكر عند الجوانب المادية، بل يتجاوزها على الجوانب المعنوية، كما في العلاقة بين المرء وزوجه، التي اعتبرها القرآن آية من آيات الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21).
ومن أبرز أساليب القرآن الكريم في تنمية مهارات الحوار وتنمية التفكير "السؤال"، ففي القرآن الكريم حشد من الأسئلة بكل ألوانها وأنواعها وأغراضها، تارة أسئلة مطروحة على لسان الناس، وأخرى مطروحة على لسان الرسول (ص)، وهكذا في سياقات من الحوار والشرح والبيان. ترى: كم مرة استعمل القرآن الكريم همزة الاستفهام؟ وكم مرة استعمل حرف (متى)؟ وكم مرة استعمل (أيان)؟ وكم مرة استعمل (من)؟
إنّ هذه الكثرة من الأسئلة والأجوبة في هذه الخارطة من الحجاج والسجال تكشف عن هوية حوارية تربوية قرآنية، وتكشف عن نزعة قرآنية متجهة نحو السؤال كمادة جوهرية في تربية الإنسان وتنشئته، وإلا كان بالإمكان التخلي عن طرح السؤال، لكن ذلك لم يكن ليكون؛ لأنّ الغاية المهمة هنا هي تنمية عقل وتنمية تفكير، ففي ذلك تنمية للإنسان كلية وتربية لكل موضوع يتعرض له بالتفكير.
لقد جاء استعمال مادة السؤال كثيراً، وقد كان مدخول السؤال هو الآخر ذا مساحة كبيرة جدّاً، حتى يمكن تشكيل خريطة هائلة من الأسئلة والأجوبة من كتاب الله تعالى، فقد جاء الاستعمال أكثر من مئة مرة، وأما استعمال الأدوات فكثير جدّاً.
كان السؤال عن الحقيقة، وكان هناك السؤال عن الخصائص والصفات، وكان السؤال عن الفائدة، وكان هناك السؤال عن الأحكام والمواقف، وكان هناك السؤال عن العقيدة وعن التاريخ، وعن المبدأ والمآل والمصير. وقد أرشد القرآن إلى عدد من الوسائل الأساسية في عملية التعلم والتعليم عن طريق الحوار، نذكر منها على سبيل المثال:
1- دعوة الناس بلسانهم (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف/ 2)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ...) (إبراهيم/ 4).
2- حسن الانتباه والإنصات (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا...) (الأعراف/ 204)، ويقول: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ...) (الأنعام/ 36).
3- التدبر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24)، ويقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).
4- المجادلة بالتي هي أحسن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
5- حسن القول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) (الإسراء/ 53).
6- استعمال المشاهدة بالحواس، وخصوصاً السمع والبصر، ولكن بشرط تربيتها وتدريبها من ناحية، وإعانتها على دقة الملاحظة بالآلات الدقيقة من ناحية أخرى، هذه الآلات هي في الواقع وسائل هدى الله إليها الإنسان، ليزيد في مدى حسه فيزيد في مدى إبصاره مثلاً بالمجاهر "الميكروسكوبات"، يقول سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).
ولقد درب الرسول الكريم أصحابه أن يستخدموا عقولهم في مواجهة المشكلات وأن يجتهدوا في ذلك – فلكل مجتهد نصيب – وألا يكونوا إمعة، وكان ذلك عن طريق حوار، ونسوق مثلاً لذلك:
لما ازداد عدد المؤمنين، وتوسعت أطراف المدينة المنورة بمن حل فيها من المهاجرين وغيرهم إلى جانب الأنصار، قامت مشكلة دينية اجتماعية، وهي: كيف يمكن دعوة المؤمنين للمسجد إذا حان وقت الصلاة؟ فلابدّ من عمل شيء.
اجتمع رسول الله وأصحابه يتذاكرون، وبدأت الاقتراحات لحل المشكلة تتوالى: قال بعض الصحابة: إذا حان وقت الصلاة فإننا نرفع راية في مكان مرتفع ليراها الناس، بيد أنّ هذا الاقتراح لم ينل قبولاً، لا من الرسول، ولا من الصحابة؛ لأنّه لا يحل المشكلة، ولا يحقق الغرض المطلوب، ورفع الراية لا يوقظ النائم ولا ينبه الغافل!
وقال آخرون: نشعل ناراً على مرتفع الهضاب، وهذا اقتراح لم يلق قبولاً لسبب جوهري اجتماعي؛ وهو أن ذلك شعار المجوس عبدة النار، وينبغي للأُمّة الموحدة أن يكون لها شعارها المميز والخاص.
وأشار قوم باستخدام بوق لدعوة الناس إلى الصلاة، كذلك لم ينل مثل هذا الاقتراح قبولاً؛ لأنّ اليهود كانت تستخدم البوق، ويجب الحفاظ على شخصية الأُمّة من الذوبان والضياع.
واقترحت جماعة أخرى دق الناقوس، ورفض الاقتراح؛ لأنّه تقليد للنصارى، والمفروض أن تكون للأُمّة الإسلامية ذاتيتها المتميزة.
ثمّ أخيراً أشار بعض الصحابة بالنداء، فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادون بها بشعار إسلامي خاص، فقبل هذا الرأي بشكل مبدئي؛ لأصالته الفكرية المؤمنة؛ ولتحقيقه العملي للغرض المطلوب في دعوة الناس.
- تربية تعتمد على بث الوعي:
ومن مظاهر سعي رسول الله كذلك لتنمية التفكير السليم أن دعوته استهدفت تربية وهداية تقوم على بث الوعي وندرة الاعتماد على المعجزات.
وليس أصدق من نبي يعلم الناس الصدق فيعلمهم مرة بعد مرة، أنّ الغيب من علم الله، يكشف عنه ما يشاء لمن يشاء: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ) (الأعراف/ 187)، و(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 188)، و(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام/ 50)، و(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (الأنعام/ 59)، إلى غير ذلك من آيات تؤكد المعنى نفسه.
وكان الناس ينظرون إلى حوادث الفلك فيحسبونها من الآيات فينهاهم أن يخلطوا بين حوادث الفلك وحوادث الحياة والموت، وعندما كسف الشمس عند موت ابنه إبراهيم، فقال الناس إنها كسفت لموته، فلم يمهلهم أن يسترسلوا في ظنهم وهو محزون الفؤاد على أحب أبنائه إليه، بل أنكر عليهم ذلك الظن، ورآها فرصة للتعليم ولم يرها فرصة للدعوة، فقال معقّباً: "إنما الشمس والقمر آياتان من آيات الله ولا تكسفان لموت أحد..."، وخلصت النبوة كلها لمهمتها الكبرى، وهي إعادة بناء الإنسان في تمام وعيه وإدراكه، فانقطع ما بينها وبين كل صناعة أو حيلة كان يستعان بها قديماً على التأثير في العقول عن طريق الحس المخدوع.