هل التكيف مع الواقع يتحقق بالعادة ام بالارادة ؟
طرح المشكلة :"مقدمة": يحاول الانسان جاهدا تحقيق التكيف والانسجام مع عالمه الخارجي ، ولا يتسنى له ذلك الا بوسائط منها . ما يعرف بالعادة والارادة رغم الاختلاف الحاصل بينهما ، اذ العادة استعداد يكتسبه الانسان نسبيا لينجز عملا من نوع واحد ، لكن الارادة هي وعي الانسان بالأسباب قصد الاقبال على الفعل او الترك ، ولعل هذا التمايز هو ما جعل الاختلاف قائما بين جمهور الفلاسفة حول ما اذا كان الانسان يحقق التلاؤم مع الواقع بطريق العادة او بطريق بالإرادة . وهو ما يدفعنا الى السؤال التالي : هل يتحقق للإنسان التلاؤم مع واقعه عن طريق الافعال الالية التكرارية ام عن طريق الاحكام الذهنية ؟ بعبارة اخرى هل يحصل التوافق مع العالم الخارجي عن طريق العادة ام الارادة ؟
محاولة حل المشكلة:
الموقف الاول : "يحقق الانسان التكيف مع واقعه والعالم الخارجي عن طريق العادة" يرى انصار المذهب المادي ان الانسان يحقق التكيف مع العالم الخارجي بطريق العادة ، ذلك لكونها سلوك يتميز بالرتابة والنمطية . اذ هي شبيهة بالغريزة لان الالية هي الشيء المشترك بينهما وهذا ما جعل ارسطو يعتبرها طبيعة ثانية لأنها هي الثبات المتكرر اي انها ثابتة ومتكررة ، ولعل ما يدل على ذلك مختلف الحركات الخارجية التي تعبر عن الجانب الفيزيولوجي للإنسان والشاهد على ذلك التجارب التي قام بها انصار المدرسة السلوكية بزعامة واطسن وبافلوف " ان السلوك البدائي للطفل راجع الى فعل التعود والتقليد ".وهذا ما يفسر دور العادة في احداث ما يعرف بالتوازن سواء تعلق الامر بالفرد او بالمجتمع ، كون هذه الاخيرة انواع منها العادة البيولوجية ، ومنها النفسية ، ومنها الاجتماعية كما يضاف الى ذلك عامل التحفيز والاهتمام والتركيز . كما ان الانسان يتعلم آداب التعامل من خلال العادة .
المناقشة " النقد": لكن الشيء اللافت للانتباه هو انه برغم المزايا المتعددة للعادة ، فإنها لا تخلو من سلبيات ، ذلك لأنها تجعل من الانسان الة مبرمجة ، وكانه يقوم بالفعل غريزيا وبشكل نمطي ، وبالتالي لا يستطيع مجارية المستجدات والمواقف الطارئة . مما يجعلها تجرد الانسان من الشعور والوعي وكانه دمية في يد شخص . ثم ان الحكمة تقول : " من تعود على شيء صار عبدا له ". فالعادة بقدر ما هي افادة لكنها ابادة ، اذ الإرادة هي من تقوم الانسان وتعطي له انسانيته .
نقيض القضية : الموقف الثاني : " انصار النزعة الذهنية " يرى انصار هذا الموقف ان الانسان يحقق التكيف مع الواقع عن طريق الارادة ، لكونها فعل واعي حر، وهي تعبر عن العقلانية المتسامية للإنسان ذلك لان الانسان كائن القيم يبدع ويجدد ، وما يثبت ذلك ان الارادة تمكن العقل من السيطرة على جميع الميولات من عواطف واهواء . لان الارادة فعل ذهني هادف ، وتصميم لمختلف الاهداف الانسانية فالإنسان جوهر وجوهره الارادة على حد تعبير شوبنهاور ، وما العقل الا اداة مساعدة للإرادة بقدر ما يكون الانسان عاقل بقدر ما يكون يتمتع بالإرادة . هذا ما اكد عليه الذهنيون وفي هذا الصدد كتب الفيلسوف موني قائلا :" لا يمكننا ان نعتقد بكون الانسان شيئا او موضوعا ما دام متميز بالإرادة والشعور" . كما اكد على هذا ايضا شارل حينما صرح بقوله :" الارادة والعقل من الهيبات الرائعة التي اهدانا اياهما المجتمع". ويضاف الى ذلك ان الارادة تعمل على تنمية سلوك الافراد والجمعات وهو ما الهم جمع من الفلاسفة الذهنيون بالقول :" ان الارادة عامل حيوي يساعدنا على التكيف والتماشي مع المستجدات ويبعدنا عن الرتابة والالية ".
النقد والمناقشة : لكن الا يمكننا ان نتساءل . هل نستطيع بالإرادة ولوحدها ان نسمو الى كل التطلعات ونتكيف معها دون عادة ؟ . يعتقد ابن سينا ان العادة تسبق الارادة من حيث الزمان . والا كيف نفسر ترسيخ الفعل ما لم تكون هناك عادة راسخة ؟. ثم ان نتشه يعارض استاذه شوبنهاور حينما اعتبر ان العادة مقترنة بالحياة .
التركيب : من خلال ما سبق ذكره يمكننا ان نوفق بين الموقفين ، ذلك لأنه لا غالب ولا مغلوب فالسمة الغالبة هي التكامل بين المفهومين ، وهو ما تجلى لنا واضحا من خلال الانسجام والتفاعل الوظيفي الحاصل بينهما برغم الاختلاف والتباين . والراي السديد هو ما اكد عليه العلماء من ترابط وتداخل بين الجسم والعقل ، حيث بينوا ان الارادة لا تكتمل الا بالعادة والعكس صحيح.
الخاتمة : وختاما لما جاء في مقالنا نستنتج ان كلا من العادة والارادة يعبران عن مفهومين اساسيين يساعدان على التكيف والانسجام برغم الاختلاف والتباين ، ومنه نخلص الى ان الانسان لا يحقق التلاؤم والتوازن مع العالم الخارجي . الا اذا اجتمعت العادة وع الارادة